لبنان بلد الأزمات المتناسلة، والمفاجآت غير المحسوبة، لا ثابت فيه إلاّ المتحوّل. فيه لكلّ عرس قرص، ولكل «بعيدٍ» موطئ قدم.. وأكثر، تتآلف أحزابه من دون مسوّغ منطقي، ومن دون هذا المسوّغ تتحالف.
عديدة هي المحاولات التي جرت لتشكيل الحكومة الجديدة وإبصارها النور، لكنها أجهضت وهي في اللمسات الأخيرة لأسباب متداخلة خارجية، محلية، حتى إذا ما انفكت عقدة تتوالد عقد أشد وطأة، على أن الذريعة حاضرة حسب الطلب، وكل طرف يدعيّ أنه على حق!.
في البداية كانت العقدة الدرزية التي استهلكت شهراً إلى أن وجدت لها حلاً على طريقة «لا تفنى الغنم، ولا يموت الذئب»، ثم عقدة تمثيل «القوات اللبنانية» التي راوحت مكانها ما يقارب الأشهر الخمسة إلى أن أصبحت الطريق سالكة وآمنة أمام الحكومة الموعودة. لم تدم الفرحة طويلاً، فكانت عقدة تمثيل النواب السنّة أو ما يعرف ب«اللقاء التشاوري». وما كادت المساعي، التي بذلها المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم لتذليل هذه العقدة، تبلغ خواتيمها السعيدة، طرأ ما أعاد عقارب الساعة إلى المربع الأول من الأزمة، ولكن هذه المرة يبدو الأمر مختلفاً، وأكثر خطورة، إذ احتدم الصراع بين الحلفاء الذين يجمعهم خندق واحد، بدليل أن عدداً من نواب «اللقاء التشاوري» يلقون تبعات العرقلة على رئيس «تكتل لبنان القوي»، وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل الذي يقولون إنه يسعى للاحتفاظ ب«الثلث الضامن» أو «الثلث المعطل» داخل الحكومة لأسباب تتعلق بمستقبل السباق نحو الرئاسة الأولى، بعد ولاية الرئيس الحالي ميشال عون، ويرون أن لا معنى البتة لوزير محسوب على «اللقاء» يريد منه باسيل حضور اجتماعات «التكتل» ويكون محسوباً من حصة رئيس الجمهورية. وتقول بعض الأوساط المتابعة إن أصابع «حزب الله» ليست بعيدة عمّا طرأ من تأزم، وتعزو ذلك لأمور لها صلة بأجندات تتخطى تخوم لبنان، ولها صلة وثيقة بالتحولات والمتغيرات التي تتصل بالمنطقة خصوصاً بعد القرار الأمريكي بالانسحاب من سوريا، وعودة «إسرائيل» إلى العربدة في الأجواء اللبنانية، واستئناف غاراتها على مواقع عسكرية في سوريا تدعي أنها للحرس الثوري الإيراني و«حزب الله» إضافة للجيش السوري.. وبالتالي فليس هناك مصلحة ل«حزب الله» بحكومة تقيّده بالتزامات وضوابط يرى أن مصلحته تكمن في تجاوزها، وعدم الركون إليها في هذا الظرف المفصلي الذي تمر به دول المنطقة ومن بينها لبنان...
وفي حين يرفض الحزب هذا التحليل، ويرى أن موضوع تعثر تشكيل الحكومة يعود إلى أسباب معظمها داخلية، تتعلق بالخلاف على الحصص بين الفرقاء، وتوزيع الحقائب الوزارية، يصرّ على القول بأن لحلفائه السنّة الحق في التمثيل وأن حجمهم الشعبي يجيز لهم أن يحظوا بوزارة كان يفترض أن يحصلوا عليها انسجاماً مع القاعدة التي وضعت للتمثيل، أيّ وزير لكل أربعة نواب، ومع ذلك، فإنهم ارتضوا أن يُسمّى أحدهم من قبل رئيس الجمهورية، وحصته، لكن ما تبع ذلك من تفاصيل في الدقائق الأخيرة أعاد الأوضاع إلى نقطة الصفر.
إن هذه التطورات التي ترافقت مع تسريبات منسوبة إلى مصادر متعددة ومتباينة، أشعل مواقع التواصل الاجتماعي بين أنصار الحزب و«التيار الوطني الحر»، حتى بلغ التوتر مستويات مقلقة أدت إلى اتصالات سريعة ومكثفة لاحتوائه، وترافق كل ذلك مع همس في «الكواليس» المغلقة عن مستقبل العلاقة بين الطرفين: هل تتدهور إلى الأسوأ، أو يجري استيعابها؟ كما استتبع بأسئلة: هل يذهب «حزب الله» في اتجاه فرط العلاقة مع «التيار الوطني الحر» وخسارة الحليف المسيحي، خصوصاً في هذه الأحوال الدقيقة التي يواجه فيها الحزب استهدافات متعددة الجنسيات والأغراض؟ وهل «التيار» يغامر في التخلي عن تحالفه مع الحزب، وهو تحالف شكّل له رافعة سياسية، وكان سبباً رئيسياً في توفير المناخات التي أوصلت العماد ميشال عون إلى الرئاسة الأولى؟
يجزم متابعون أن الأزمة بلغت هذه المرحلة، وهي مرشحة لأن تكبر، وتتخذ أبعاداً أخطر ممّا يظن الكثيرون، لكن: هل هذا الكلام دقيق، أم أنه تهويل متبادل، في ظل استمرار لعبة «عض الأصابع» بأسنان «فولاذية» تدمي وتوجع؟.
ثمّة من يراهن على اتصالات يجريها فرقاء من قوى الثامن من آذار(مارس) مع الرئيس عون لتأكيد احترامه والإشادة بدوره الوطني، والرغبة في قيام تعاون مخلص من أجل تجاوز كل العقبات لتحقيق الاستقرار السياسي. فهل ستسفر هذه الاتصالات عن مدخل إلى الحل الذي طال انتظاره ويشكل متنفساً للاحتقان الذي ارتفع منسوبه على نحو لافت؟.
الوزير السابق زياد بارود يقول ل«الخليج»، «إن الوضع صعب ومعقد، ولا يخلو من الخطورة، وإذا استمرت الأمور سائرة في الاتجاه الذي نشهده، فإننا ذاهبون إلى مشكل»، ولم يحدّد بارود طبيعة هذا «المشكل»، لكنه لاحظ أن الوضع غير صحّي بين «حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، ولم يستبعد خطوة يقوم بها وسطاء لتدارك أي تدهور محتمل.
على أن الأهم من ذلك هو حال الإحباط العميقة التي خلّفها التعثر الأخير الذي منع ولادة الحكومة، وحرم اللبنانيين «العيدية» الموعودة، ما انعكس سلباً على الوضع الاقتصادي المتراجع أصلاً، وعلى حركة الأسواق التجارية مع حلول أعياد الميلاد ورأس السنة. وهذا الإحباط ولّد نقمة في أوساط الرأي العام عبّر عنها بوضوح، وبأسلوب مباشر البطريرك الماروني أمام رئيس الجمهورية في قداس الميلاد الثلاثاء الماضي.. كلمات البطريرك لسعت كالسياط، ولم توفر مسؤولاً، ولكن على «من تقرأ مزاميرك يا داوود»..!!
بادرة أمل.. وأرانب للحل
كان السفير الإيطالي السابق في لبنان أنطونيو مانشيني يرتاح إلى ترداد قول من ابتكاره «في هذا البلد يمكن أن تصدّق ما لا يُصدّق»، في دلالة صريحة على «الطبخات» و«التوليفات» التي تشكّل مخرجاً لأكثر المشكلات استعصاء. وانطلاقاً من ذلك، فإن الأمل بالوصول إلى مخرج للأزمة الحكومية القائمة لم يوصد بعد. وفي هذا السياق يستعد مدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، لجولة جديدة من الاتصالات تشمل جميع المعنيين بالأزمة في محاولة لحل العقد، وتذويبها، والوصول إلى صياغات يرضى بها هؤلاء. ويتخوف مراقبون من أن تكون الانتكاسة الأخيرة ذريعة مضافة للقوى التي تداعت إلى التظاهر والاحتجاج السبت الأسبق، لكي ترصّ صفوفها وتتمدد في الشارع اللبناني مستفيدة من الإحباط الذي يلف اللبنانيين على اختلاف فئاتهم.
ويلاحظ أن رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري يداوي خيبته بالصمت علامة اشمئزاز من الوضع القائم، في حين أن رئيس مجلس النواب نبيه بري لا يخفي ألمه ممّا حصل.
وفي انتظار أن يخرج اللواء إبراهيم «أرانب» الحل، ويجول بها في مهمة جديدة أكثر صعوبة وتعقيداً من مهمته السابقة، فإن حال التجاذب والتراشق «الفيسبوكي»، وتبادل الاتهامات ستظل ناشطة، ولن يكتب لها الهدوء إلاّ بعد أن تبصر الحكومة النور، وتقف اللعبة عند هذا الحد. خصوصاً أن اللبنانيين لا يعرفون حتى الساعة، لماذا تأخرت الولادة الموعودة، وهل ما يستوجب كل هذا الانتظار.
على أيّ حال، لابُدّ من السؤال ثانية: هل تولد الحكومة مع بداية العام الجاري، أو تُجهض المساعي من جديد؟ وعندها فعلاً سيكون الجميع أمام التحدي الكبير، لأن عليهم أن يبحثوا عن لبنان آخر بين ركام الأزمات.