Quantcast
Channel: صحيفة الخليج
Viewing all articles
Browse latest Browse all 134312

لا تنس طريق العودة

$
0
0
د. حسن مدن

في كتابي «ترميم الذاكرة» الذي صدرت طبعتاه الأولى في عام 2008، والثانية في العام الماضي، وردت فقرة بعنوان «وصايا الأم»، وفيها جاء، على لسان الأم قولها لابنها: «اذهب بعيداً، لكن تذكّرْ طريق الإياب لأنه أصعب وأطول وأكثر مشقة وألماً. احتفظ بجنونك ولكن توّجْهُ بالحكمة. كنت تسألني: كيف يمكن جمع النقائض؟ وكنتُ أقول إنّ المخلوقات الفاتنة المعجونة ببسالة الفارس وجمر الروح هي حاصل جمع النقيضين».
أذكر أني أعدت نشر هذا النص، قبل سنوات أيضاً، على صفحتي في «فيسبوك»، لأتلقى تعقيبات عليه من بعض أصدقائي، بينها تعليق للكاتب والمسرحي البحريني خليفة العريفي وفيه يقول: «المهم ألا تلتفت للوراء وأنت ذاهب بعيداً، وإذا عُدتَ، عُد من طريقٍ آخر».
أما الأديبة أمل المشايخ، فقد أشارت إلى قصة حميمة للصّغار، استمع الصّغير، فيها، إلى حوار بين أمه وأبيه يخبرها أنه يعتزم أن يرمي أولاده السبعة في الغابة البعيدة بسبب فقره. عند الإفطار أكل الصّغار كسرات الخبز التي حملتها أمهم ولا غذاء لهم سواها، بينما احتفظ الصّغير (عقلة الإصبع) بكسرته ليرمي بفتاتها لتكون علامة للطريق الطّويل تمكّنه وأشقاءه السّتة من العودة للبيت، ولكن حدث ما لم يكن في حسبان الصّغير حين أكلت العصافير كسرات الخبز.
في القصة الحلوة ذهب الصّغار إلى بيت الغول حيث لبس الصّغير الحذاء السحري الذي مكَّنه وإخوته من الوصول إلى بيت الوالي الذي تكفّل بحل مشكلتهم، لذا علّقت أمل قائلة: «ربما كان من حقنا اليوم أن نسأل: من لنا إن أكلت الطير من كل لون خبز عودتنا، بل من أين لنا من يتكفّل بكشف غمّتنا إن عذبتنا الدروب الطويلة والأبواب الموصدة؟».
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإني صدّرتُ «ترميم الذاكرة» بعبارة لجراهام جرين تقول: «إذا أدركك الحنين إلى مكانٍ فلا تعد إليه»، وهو ما حمل الناقدة التونسية شيراز بلعبرية على القول بأن الخوف من العودة إلى المكان قد يؤجّج الحنين، لذلك فإن أفضل طريقة للتخلّص من رهبة المكان وما يثيره فينا من مشاعر، هو أن نمرّ منه كلّ يوم فيستحيل مكاناً مألوفاً وعاديّاً مفرغاً من كل دلالاته إلاّ إذا كان المقصد الإبقاء على هذا الحنين، فالأمر، في هاته الحال، يختلف.
لكن غاية القول لم تكن الدعوة للإبقاء على الحنين، وإنما الإشارة إلى الظروف القاهرة التي تجعل عودتنا إلى المكان الذي نحنُّ إليه مستحيلة، فيعصرنا إليه الحنين. والسؤال هنا: ماذا إذا زالت أسباب عدم العودة، وقررنا تجاهل نصيحة جراهام جرين، فماذا عسانا فاعلين، إذا كنا لم نصغ لنصيحة الأم، فلم نحفظ طريق العودة، أو أن الطير أكلت كسرات الخبز التي رميناها في الطريق كي تكون علامة تدلّنا عليه، كما في الحكاية؟

madanbahrain@gmail.com


Viewing all articles
Browse latest Browse all 134312

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>