Quantcast
Channel: صحيفة الخليج
Viewing all articles
Browse latest Browse all 134312

أيكون المستقبل استدارة للوراء؟

$
0
0

د. حسن مدن

في وصفه لاستباحة التتار لمدينة بغداد، الحاضرة العربية - الإسلامية المزدهرة في حينه، كتب ابن كثير في كتابه «البداية والنهاية»، واصفاً فظائع الغزاة: «ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات، ويغلقون عليهم الأبواب فيفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري المزاريب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون». سيقول قائلونا: ما أشبه الليلة بالبارحة، في وصف ما نحن شهود عليه في مدن عربية عديدة، وبالتوازي لا بالتتالي فقط، لا يقل فظاعة ورعباً وهمجية، مع ما بلغته الأسلحة من «تطور»، فصار فتكها أكبر وأفظع بما لا يقاس. وفي النهاية، فإن الحرب هي الحرب في كل زمان ومكان بما تثيره في النفوس والأذهان والأبدان من رعب وخوف.
الحرب هي مواجهة بين التوحش والحضارة. مَيْلان متناقضان يتنازعان البشر، أحدهما يأخذهم، أو يسعى لأخذهم، نحو التحضر والرقي والحياة، والآخر يشدهم نحو التوحش والتخلف والموت. وكنا لحين نعتقد أن البشرية تغالب ميلها للتوحش لصالح ميلها الآخر للتحضر، وأن الأول يغدو، شيئاً فشيئاً، ماضياً فحسب ينتسب إلى مراحل سابقة.
التجربة أظهرت أن «المستقبل» فقد دلالته التقدمية، وبات مجرد حركة للزمن، من ما قبل إلى ما بعد، دون أن يعني أن ما بعد هو إلى الأمام، وما قبل كان الهمجية والتوحش. المخضرمون من الرجال والنساء يتذكرون أحلامهم قبل عقود قليلة من الآن فقط عن صورة المستقبل الزاهية التي حلموا بها، فلما أتى هذا «المستقبل»، مستقبلنا العربي تحديداً الذي بات حاضراً، وجدوه همجية تعيدهم إلى ما يشبه الوصف المرعب الذي قدّمه ابن كثير في كتابه.
ولو أننا قرأنا هذا النص قبل نصف قرن من الآن، لما كان بالنسبة لنا أكثر من نصٍّ من الماضي، كلام مطبوع في كتاب، نقرأه ونستفظعه، لكننا نقول في قرارة أنفسنا: «الحمد لله أن هذا كان ماضياً فحسب»، وأننا لم نعشه ولن نعيشه، وكذلك أبناؤنا وأحفادنا. لكننا عشنا ورأينا ما هو في فظاعته ويبزّه فظاعة، كأن «المستقبل» هنا استدارة إلى الخلف، لا مضيٌّ إلى الأمام، نحو الأحسن والأزهى والأجمل والأرقى.
ليس مراد هذا القول حملنا على الاستكانة لما آلت إليه أحوالنا ولا التسليم بها، وإنما للتذكير بالحقيقة المرة، وهي أننا لم نتعظ من مرارات الماضي وقسوة دروسه. ودون إغفال الأيادي الأجنبية الشريرة التي تعبث بأوطاننا، علينا القول إنها ما كانت ستتمكن منا لولا حال الهوان التي بلغناها.

madanbahrain@gmail.com


Viewing all articles
Browse latest Browse all 134312

Trending Articles



<script src="https://jsc.adskeeper.com/r/s/rssing.com.1596347.js" async> </script>