لم تكن الانتخابات التشريعية التي جرت في إيطاليا، مؤخراً، والتي فازت فيها قِوى اليمين والتيارات الشعبوية، إلا جذوة اشتعلت بعدما خمدت قرابة عقد من الزمان. وها هي الأزمة العميقة التي تعيش فيها إيطاليا تطفو على سطح الأحداث، بسبب انسداد الأفق في إيجاد حلول جذرية لمشاكل جمة؛ أبرزها الاقتصاد المتعثر، والهجرة غير الشرعية. ذلك أن منطقة اليورو، التي أوحت للشعوب التي لا تؤمن بجدواها، عجزت أن تكون تجربة مثالية لكيفية تعاون الدول المختلفة مع بعضها، إلا أن الذين انضووا تحت لوائها سرعان ما اكتشفوا مساوئها؛ لأنها أسهمت في تحطيم اقتصادات دول أوروبية عديدة، أبرزها إيطاليا، التي تُعدُّ من الدول الصناعية السبع الكبرى، وناتجها الإجمالي يفوق ألف مليار دولار، لكن لم يشفع لها ذلك من الوقوع في مصيدة الديون، التي تحولت إلى كابوس حقيقي يقض مضاجع أهل الحكم والسياسة فيها.
فمنذ عام 2010 أصبح الدين العام الإيطالي يفوق 1.9 تريليون يورو. وقد واجهت حكومة رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو برلسكوني، في ذلك الحين، شروطا قاسية من دول منطقة اليورو تطالبها بإقرار حزمة تقشف ضخمة؛ حتى تتفادى الوقوع في مصيدة الإفلاس. ورغم المراوغات السياسية التي أجراها الملياردير برلسكوني للنجاة من حبل المشنقة السياسية، إلا أنه وقع بين سندان الضغوط والتهديدات الداخلية من المعارضة الإيطالية ومطرقة الضغوط الخارجية من قادة منطقة اليورو، أجبرته في النهاية على اتخاذ قرار التنحي، فخلفه إنريكو ليتا الذي سرعان ما فشل في إنقاذ إيطاليا من أزمة ديونها، فاستقال، وخلفه ماتيو رينزي الذي جاء كمنقذ للأمة الإيطالية، حيث تبنى هذا برنامجا للإصلاح الدستوري، بهدف تقليل النفقات من أجل البدء بعملية سداد الديون، وفق ما أملته عليه المفوضية الأوروبية، وتم طرح هذا الإصلاح الدستوري للاستفتاء العام في ديسمبر/كانون الأول 2016، لكن النتيجة جاءت مخيبة للآمال، فقد رفض غالبية الإيطاليين هذا البرنامج، وكان ذلك إشارة أخرى تدل على صعود الشعبوية ومعاداة المؤسسيّة في العالم الغربي.
لكن الانتخابات الأخيرة التي أفرزت بوضوح هذه القوى الشعبية الرافضة للبناء الأوروبي، والتي أصبحت واقعاً سياسياً لا يمكن تجاوزه. ولعل أبرز هذه القوى هي: حزب رابطة الشمال الذي لم يخفِ، يوماً، كرهه للمهاجرين، ومساعيه لإخراج إيطاليا من الاتحاد الأوروبي، باعتبار ذلك مقدمة لخروج إيطاليا من أزماتها المختلفة. وكذلك حركة النجوم الخمسة بزعامة، لويجى دى مايو، الذي أعلن أنه في حال فوزه في الانتخابات فإنه سيطرح بقاء إيطاليا من عدمه في منطقة اليورو على الاستفتاء الشعبي.
إن هذه الأحزاب الفائزة تشترك كلها في النظرة السلبية تجاه الانفتاح، والرغبة في الانغلاق على الذات لتجنب المزيد من الكوارث والإخفاقات. ورغم أن أياً من هذه الأحزاب لم يفز بأغلبية برلمانية تؤهله تشكيل حكومة بمفرده، لكن ذلك لا يعني أنها لن تمثل رقماً صعباً في المعادلة السياسية في إيطاليا، خاصة أنها ستلجأ إلى التحالفات فيما بينها، وقد يستغرق هذا وقتاً، لكنها ستنجح في النهاية في إعلان حكومة إيطالية جديدة. وتطالب حركة خمسة نجوم (32.5%)، كونها الحزب الأول، بأن تبدأ هي المشاورات الاستكشافية بين القوى السياسية الأخرى، بينما يرى زعيم رابطة الشمال ماتيو سالفيني، باعتبار أن حزبه حاز العدد الأكبر من الأصوات داخل ائتلاف يمين الوسط، أي 40% من أصوات الناخبين، أن له حق قيادة الجهاز التنفيذي القادم. وربما لا يهم الشخص الذي سيقوم بتشكيل الحكومة، خاصة أن إيطاليا تفتقد السياسيين الذين يملكون كاريزما تؤهلهم لقيادة المرحلة القادمة، والخروج من عنق الزجاجة، كما أن برامج هذه الأحزاب متشابهة مما فقدها القدرة على المناورة السياسية؛ لاستقطاب الجماهير. ومن المتوقع أن يتم تحويل سياسات هذه الأحزاب إلى واقع وقوانين، حيث ستكون هناك إجراءات معادية للمهاجرين، ولاسيما من العرب والمسلمين.
فمنذ بداية الحملات الانتخابية في إيطاليا، هاجم زعيم حزب رابطة الشمال، الإسلام وربطه بالإرهاب، وقال:« إن الإسلام ضد قيمنا وضد الحريات الإيطالية، وسأغلق 800 مسجد». وهكذا قد يتم انتهاج سياسات ضد المهاجرين، وضد الهجرة بشكل عام، أما بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فمن المتوقع أن يتم عرض بقاء إيطاليا في هذا الاتحاد على الاستفتاء الشعبي العام، ومن المتوقع أن يوافق الإيطاليون على الخروج، لأنهم باتوا يدركون أن وجود بلادهم داخل منطقة اليورو غير مجز لهم، لكن تصويتهم ضد الوحدة الأوروبية، سيكون ذا تكلفة عالية، وقد تنجم عنه خلافات طويلة بين إيطاليا وسواها من دول أوروبا، فبريطانيا التي لم تكن ضمن منطقة اليورو، لم تكمل حتى الآن إجراءات الخروج منذ تصويتها، فكيف هو الحال بدولة مثل إيطاليا، تعد ركيزة أساسية في الاتحاد الأوروبي، وقد تشابك اقتصادها مع اقتصاد باقي دول منطقة اليورو؟.
med_khalifaa@hotmail.com