فيلمان ما زالا يطوفان على سطح المشهد السينمائي من تمثيل الكوميدي البريطاني بيتر سلرز. تتم الاستعانة بهما في عروض مهرجانية، أو إطلاقهما من حين لآخر على «ديسكات». هذا من دون تعداد الأفلام الأخرى، التي تعرض تباعاً على شاشات التلفزيون الغربية في أوروبا والولايات المتحدة.
هذا الكوميدي انضم، منذ رحيله في منتصف سنة 1982، إلى أولئك الممثلين الذين ركبوا الدرجة الأولى في قطار الكوميديا منذ نشأة السينما؛ مثل: تشارلي تشابلن وبستر كيتون ولوريل وهاردي وجاك تاتي وسواهم.
الفيلمان هما: «دكتور سترانجلَف أو كيف تعلمت التوقف عن القلق وحب القنبلة» Dr. Strangelove or: How I Learned to Stop Worrying and Love the Bomb سنة 1964 و«التواجد هناك» (Being There) سنة 1979.
شارك سلرز بعض أترابه في ارتداء أقنعة مختلفة طوال حياته المهنية إلا أنه أجاد ذلك أكثر من سواه. هو هندي مرتبك في غير مجتمعه في «الحفلة»، وتحري فرنسي أكثر ارتباكاً في سلسلة «بينك بانثير»، وصيني في دور السفاح الصيني في «الحبكة الشريرة لفومانشو» مروراً بالإيطالي والأسباني والبريطاني وبدورين آخرين كهندي.
هناك ممثلون كثيرون آخرون لعبوا تعدد الأدوار؛ لكن لا أحد منهم مثل عدة أدوار مختلفة تماماً في فيلم واحد كما فعل سلرز في «دكتور سترانجلَف». عبقريته بالتالي لم تكن تعدد شخصياته أمام الكاميرا في بعض الأفلام أو في كل ما مثله طوال أربعة عقود (1950-1979) بل منح كل هذه الشخصية قوامها وملامحها الخاصة من دون أن يفقد شخصيته الكوميدية الخاصة.
عندما مات بيتر سلرز في 28 يوليو/تموز سنة 1980 إثر نوبة قلبية لم تمهله طويلاً، تلقى المجتمع السينمائي الخبر بحزن بالغ، خلال سنوات عمله التي لم تنقطع أو تتوقف إلا نادراً، بعث الممثل ابتسامة فارقة ومختلفة. سلرز كان خامة موهوبة في التقليد وإتقان الآخر وفي بعث الحياة في أي صورة كاريكاتورية كانت تسند إليه. وكان يحب العمل ويصبو إلى النجاح، وكلاهما - لجانب نوعية الحياة الخاصة التي عاشها - أجهدته. دخل المستشفى أكثر من مرة بسبب قلبه؛ لكنه لم يتوقف عن العمل وسقط في نهاية المطاف تاركاً الفراغ الذي لم يُملأ إلى الآن.
ولد في 8 سبتمبر/أيلول من العام 1925 في بلدة ساوث سي البريطانية. والداه كانا عاشقان للفن يديران مسرحاً للمنوعات يطل على البحر. هناك سلرز كان يقضي أحلى أوقاته صبياً يتابع الكوميديين والممثلين الذين يقدّمون استعراضات منوّعة، الأرجح أنه أحب التقليد وُلد من خلال مراقبته ما يفعل الآخرون ولاحقاً تطوّر إلى قدر كبير من الطبيعة التي لا يمكن فصلها عن أعمال الممثل أو أسلوب أدائه.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية انضم إلى فريق مسرحي في سوهو، لندن. موهبته في التقليد والمحاكاة صوتاً وحركة كانت لافتة. وسريعاً ما وجد نفسه يقدم برنامجاً إذاعياً (بالاشتراك مع كوميديين آخرين) من على محطة BBC المعروفة.
خلال سبع سنوات من عمر البرنامج الذي بدأ سنة 1949، أخذ سلرز يستلم عروضاً للظهور في الأفلام. فيلمه الأول، وبعد ثلاثة أفلام قصيرة مثّل بعضها وعلّق بصوته على بعضها الآخر، كان «بَني يشير إلى حيث الجنة» سنة 1951 ثم «في الأسفل حيث رجال زد» Down Among the Z Men في العام ذاته.
وبعد فيلم قصير آخر وفيلم طويل مثّل فيه بصوته فقط ظهر في «الأوامر أوامر» 1954 و«أصغر استعراض على الأرض» 1957 ثم «توم ثامب» 1958. أبرز هذه الأدوار كانت في فيلم واليك جينس وهربرت لوم وسيسيل باركر عنوانه «قاتلو السيدة» سنة 1955. لكنها جميعاً كانت تحضيرات لبطولته الأولى في فيلم كوميدي لامع عنوانه «أنا على ما يرام يا جاك» أخرجه الأخوان جون وروي باولتينج سنة 1959).
نجم في أمريكا
بعد ذلك، وبينما العديد من الأفلام القصيرة التي كان يحب تمثيلها في وقت كان لها حضورهاحتى في صالات السينما العامة، وجد نفسه في سلسلة من الأفلام الكوميدية الناجحة مثل «معركة الجنسين» و«المليونيرة» و«لعبة لإثنين فقط» وكلها في العام الأول من الستينات. ولفت الأنظار أكثر وأكثر عندما أدى، في «فقط اثنان يستطيع لعبها» لسيدني جيليات- 1962 شخصية موظف في المكتبة العامّة هجر حياته الزوجية طامحاً لحياة من العلاقات الجنسية الساخنة. أخذ يمضي أيامه يحلم ويتمنى إلى أن واتته الفرصة عندما تعرّف إلى امرأة بالغة الجمال ومثيرة قامت بأدائها ماي زترلينج التي انقلبت إلى الإخراج بعد سنوات قليلة.
في العام 1962 أدّى دوراً صغيراً لكنه كان ملحوظاً في فيلم «لوليتا» للمخرج ستانلي كوبريك ودوره هذا أدّى به إلى لعب بطولة مشتركة؛ لكن فيلم «د. سترانجلف» كان بالنسبة إلى الممثل المتفنن في التقليد والمحاكاة الكاريكاتورية ملعباً كبيراً.
في ذلك الفيلم المعادي للحرب نرى سلرز يمثّل دور رئيس الجمهورية الأمريكي الذي يحاول إنقاذ بلاده من رد سوفياتي على القنبلة النووية التي أٌطلقت على موسكو بالخطأ ومن دون أمره، ودور العالم المقعد المهووس بالتدمير الذي يتنبأ بأن دمار العالم نووياً سينتج عنه مئة سنة من استحالة الحياة قبل أن يبدأ جيل جديد ممن بقي على قيد الحياة حين وقوعها، ولعب كذلك دور الضابط البريطاني الذي يحتجزه القائد العسكري اليميني المتطرف (سترلينج هايدن) في مقرّه الذي كان أمر بإطلاق الصاروخ النووي اعتقاداً منه بأن الشيوعيين تسللوا إلى البلاد وسمموا الماء.
موهبة سلرز من القوّة بحيث لا يمكن تفضيل دور على دور في ذلك الفيلم. هو ناجح في الأدوار الثلاثة كلها وبذات الدرجة علماً بأنه يمثّل كل شخصية من هذه الأدوار كما لو كان ممثلاً مختلفاً في كل مرة.
الستينات كانت الفترة التي انتقلت فيه شهرته إلى أمريكا و«د. سترانجلف» أسهم كثيراً في نشرها ليس فقط؛ لكونه يعد فيلماً أمريكياً؛ بل أساساً لكونه يعد فيلما ًمن إخراج كوبريك لكنه لم يكن الفيلم الوحيد فهو في العام ذاته ظهر في الحلقة الأولى من الفيلم الهوليوودي الكوميدي «بينك بانثر» كما أخرجه ببراعته الكوميدية المعهودة بليك إدواردز مستوحياً تلك الشخصية الكرتونية الشهيرة التي ظهرت في مئات الأفلام القصيرة باسم «الفهد القرمزي».
طريق سلرز في السينما الأمريكية كانت معبّدة: «ما الجديد يا بوسي كات»، «كازينو رويال»، «بوبو»، «امرأة مضروبة بسبعة»، «الحفلة» و«أحبك يا بي أس توكلاس» كانت بعض ما مثّله في ظرف ثلاث سنوات فقط ما بين 1965 و1968.
لا عجب إنه اجتهد كثيراً لكن المحزن، كما ورد في كتاب بيوجرافي وضعه سنة 1980 سبايك موليجان، إنه لم يكن واثقاً من أنه وصل بالفعل لما ينشده، نعم كان يلحظ الاهتمام به ويعلم أنه محط طلب المنتجين؛ لكنه لم يكن واثقاً من أن نجاحه حقيقي غير مركب تبعاً لعوامل أخرى. أحياناً، كما يذكر الكتاب المؤلف عنه، لم يكن واثقاً من خطواته.
«عودة بينك بانثر» عام 1975) و«بينك بانثر يضرب ثانية» في 1976 ثم «انتقام بينك بانثر» 1978 حققت له المزيد من النجاح المادي، لقد استثمر النجاح السابق الذي حققه في «بينك بانثر» إلى حد بات من السخف قيام بديل له في ذلك الدور وهو ما حاوله الكوميدي ستيف مارتن لاحقاً وفشل.
بعد «انتقام بينك بانثر» مثل ثلاث شخصيات أخرى في «سجين زندا» عن الرواية الشهيرة التي وضعها أنطوني هوب وتم نقلها أكثر من مرّة إلى الشاشة الكبيرة، لكن في حين أن المرات السابقة كانت جادة فإن فيلم سلرز كان، وبطبيعة الحال، كوميدياً.
آخر فيلم رائع مثله بيتر سلرز كان «التواجد هناك» (Being There) لهال أشبي 1979. لم يكن فيلماً كوميدياً مثل باقي الأفلام الكوميدية الأخرى؛ بل كان فيلماً سياسياً في الأساس مصبوغاً بتلوين كوميدي داكن. سلرز هنا رجل تجاوز الخمسين وهو مقطوع من شجرة يعمل في حديقة ببيت ثري، ومع مطلع الفيلم يموت صاحب البيت وعلى الحدائقي أن يتركه إلى العالم، كل علاقته الذي لا اسم له سوى جاردنر أي الحدائقي) بذلك العالم هو ما يراه على التلفزيون عندما كان لا يزال بريئاً مثله. الحدائقي ليس بريئاً فقط، بل كان عذرياً قبل وأثار بذلك زوجة أحد كبار الأثرياء والسياسيين«شيرلي مكلين». وكانت التقطته عندما صدمته سيارتها وأخذته معها إلى بيت زوجها العجوز الذي يعجب به كما يعجب به رئيس الجمهورية الأمريكي عندما رأي بيت العجوز في زيارة، بسؤال الاستخبارات عنه لم تستطع هذه أن تبرز كلمة واحدة كما لو كان الرجل غير موجود.
سيعرض «التواجد هناك» في مهرجان سان فرانسيسكو المقبل عرضاً تكريمياً؛ احتفاء بالمخرج هال أشبي وكان أطلق على أسطوانات قبل شهرين. أما «دكتور سترانجلف..» فسنجده على أسطوانات جديدة وليس للمرة الأولى. إنه مقارنة بين تمثيل كوميدي رائع وإخراج كوبريك اللاذع.
محمد رُضا