إعداد: عثمان حسن
أن يكون تلميذ أفلاطون ووريث سقراط، وأن تغطي كتاباته الفيزياء، والميتافيزيقيا، والأدب، والموسيقى، والمنطق، واللغويات، والسياسة، والأخلاقيات، وعلم الأحياء.. وأن يشغل إرثه القرون، وينشغل خلالها العلماء والمفكرون بما وضع من نظريات، وطرح من تساؤلات، فهذا يشي بأن ما ابتدأه سقراط العظيم، وأسس عليه أفلاطون ذلك الصرح الفكري الباهر، قد اكتمل لدى وريثهما أرسطو، أو كاد، غير أن كل ذلك لا يعني بحال أن أرسطو كان تابعاً لأستاذيه، أو مجرد مطور لما بنياه، فلكلٍّ شخصه، وفكره، وعلمه، وعلامته.. لكن ما تهيأ لأرسطو لم يتهيأ لغيره، فهو شيخ الفلاسفة، وعصره هو، هو العصر الذهبي للفلسفة.
في مقدونيا
مقدونيا اليونانية مملكة قديمة شمال اليونان، حكمها الإسكندر الأكبر، وفيها ولد أرسطو (أرسطوطاليس) عام 384 ق.م، وتحديداً في مدينة ستاجيرا شرقي مدينة سالونيك. وكان والد أرسطو نيكوماخوس هو الطبيب الخاص للملك أمينتاس الثالث المقدوني، جد الإسكندر الأكبر. ولعل هذا الإرث كان الدافع الأول لاهتمام الفتى أرسطو، فيما بعد، بالطب والطبيعيات، قبل أن تتسع اهتماماته إلى دائرة أعظم.
مع الإسكندر
في عام 348 ق.م. ارتحل أرسطو إلى المدينة اليونانية آترنيوس، وتزوج شقيقة حاكمها هرمياس، لكن المقام لم يطل به هناك غير ثلاث سنوات، إذ تلقى دعوة من الملك فيليبوس المقدوني ليكون معلم ابنه الذي أصبح فيما بعد الإسكندر الكبير.
لازم أرسطو الإسكندر صديقاً، ومعلماً، ومستشاراً. وفي عام 332 ق.م، افتتح في أثينا مدرسة لوقيون. وقد عرف أتباعه بالمشائين، لأن أرسطو كان من عادته أن يمشي بين تلامذته وهو يلقي عليهم الدروس، وظل يدير هذه المدرسة 13 عاماً.
أمت جموع طلاب العلم مدرسة أرسطو التي فتحت أبواب البحث العلمي على مصاريعها، فصارت ساحة للعلوم بشتى أصنافها، ومقراً للمعرفة والفكر أنتج للتاريخ مآثر علمية خالدة وقامات من العلماء والمفكرين.
أما أرسطو فكان مدرسة وحده، فلم يترك موضوع بحث إلا وأدلى به من فيض عقله وتجربته، حتى جمعت مؤلفاته العلم بضروبه، ومنها: السياسة، وفن الشعر، والمنطق، وتاريخ الحيوانات، وعلم الفلك، وموضوع النفس، وغيرها.
وفاته
كان أرسطو من أنصار المقدونيين، ومقرباً من حاكمهم الإسكندر الأكبر، وحين مات الإسكندر عام 323 ق.م، آل حكم أثينا إلى أعداء المقدونيين، فخشي أرسطو انتقامهم، لا سيما أن خصومه مكروا له، ودبروا للإيقاع به تهمة الإلحاد، وعند ذلك لم يجد أرسطو بداً من الفرار، خشية أن يلقى المصير الذي لقيه أستاذه الكبير سقراط من قبل، فكان أن لجأ إلى مدينة خلسيس، وفيها أقام حتى أصابه المرض بعد عام، فمات عن ثلاثة وستين عاماً من الإبداع، عام 322 ق.م.
أورجانون
الدارس لفلسفة أرسطو يجد أن مؤلفاته في المنطق قد جمعت كلها تحت اسم «أورجانون». وهذه كلمة تعني الأداة، ما فسر بأن هذه المؤلفات، وتلك الجهود الفلسفية، والعبقرية العلمية، ما هي إلا بحوث في الفكر، الذي هو أداة من أجل المعرفة، ووسيلة إليها.
ومما يجدر ذكره عند الحديث عن فلسفة أرسطو، أنه سبق الفلاسفة إلى تحليل العملية الفكرية التي يمكن بها التوصل منطقيّاً إلى استنتاج أنَّ أي قضية من الممكن أن تكون صحيحة استناداً إلى صحة قضايا أخرى.
وعملية الاستدلال المنطقي هذه، في اعتقاد أرسطو، تقوم على أساس شكل من أشكال البرهان سماه القياس.
ففي حالة القياس، يمكن البرهنة، أو الاستدلال منطقياً على صحة قضية معينة، إذا كانت هناك قضيتان أخريان صحيحتان، ومثال ذلك أن نقول: كل إنسان فانٍ، وأرسطو إنسان، إذاً، فأرسطو فانٍ.
في الطبيعيات
«الطبيعيات» كتاب من كتب أرسطو، وواحد من مجالات بحثه، وقد وضع أرسطو فلسفة للطبيعة تقوم على أساس التغير، فرأى أن دراسة الطبيعيات هي دراسة ما يتغير من الأشياء، والتغير عند أرسطو أن تكتسب المادة نفسها شكلاً جديداً، إذ وضع حدوداً لكل من الصورة والمادة والشيء، وأكد ضرورة التفريق بينها من أجل فهم التغير.
أما أسباب التغير عند أرسطو فهي أربعة: مادي، وصوري، وفعَّال، ونهائي.
والحركة نوع من التغير، درسه أرسطو وكتب فيه، ومن ذلك حركة الأجرام السماوية.
والحركة المكانية عند أرسطو، كما يوضح الكاتب المغربي محسن المحمدي، يقسمها إلى قسمين: حركة طبيعية وحركة قسرية، حيث يتصور العالم بأنه كرة محدودة، والكون كروي لأن الكرة هي أكمل الأشياء، ومحدود لأن له مركز هو الأرض، كما أنه يجعل من القمر فاصلاً لهذا الكون إلى مرتبتين: سفلية حيث التغير والفناء، وعلوية حيث الكمال والثبات، أو بعبارة أخرى، فالعالم معه مكون من قسمين: عالم ما تحت القمر، وعالم ما فوق القمر: أي عالمنا، وعالم النجوم والكواكب.
الأول أرضي يتركب من عناصر أربعة مختلفة، متراتبة، وحركاتها مستقيمة (أسفل - أعلى)، بحسب الثقل والخفة، وتسمى الأسطقسات (التراب، الماء، الهواء، النار)، وهي الأساس الذي تتولد منه بقية الأشياء. إنه عالم التغير والتوالد والتحلل. باختصار، هو عالم الكون والفساد.
أما الثاني، فسماوي، ويتكون من مادة الأثير، أو العنصر الخامس، التي ما هي بالثقيلة ولا بالخفيفة، ولها حركة دائرية أزلية. إنه عالم غير قابل للتوالد، أو الهدم، فلا مجال فيه إلا للكمال والثبات.
إذاً، الحركة الطبيعية الرائجة في هذا الكون، إما أن تكون كاملة بسيطة وخالدة، وهي الحركة الدائرية السائدة في عالم ما فوق القمر، وإما تكون حركة مستقيمة من أعلى إلى أسفل، أو من أسفل إلى أعلى بحسب ناموس الخفة والثقل، في عالم ما تحت القمر.
ومن الطبيعيات أيضاً جهد أرسطو البارز في علم الأحياء، حتى أنه جمع معلومات وفيرة عن الحيوانات وحلَّل أجزاء الكائنات الحية، وصنفها بحسب الغاية من كل جزء فيها، بل إن أرسطو كتب في الروح، باحثاً في وظائفها المتعددة، وفي العلاقة بين الروح والجسد.
الأخلاقيات
السعادة هي مطلب الإنسان، وتحقيقها يكون بأداء المرء لوظيفته، ووظيفة الإنسان - وهو الحيوان العاقل في تعريف أرسطو - هي أن يعقل الأمور، وهكذا فإن الحياة التي يحكمها العقل هي الحياة السعيدة عند أرسطو.
والفضيلة أن يتحاشى الإنسان التطرف، فيلزم سلوكه الاعتدال، ويتحرى الوسط بين الحدين.
كتاب الشعر
هذا واحد من أعظم الآثار التي خلفها أرسطو، وأبلغها تأثيراً في النقد الأدبي.
وقد رأى أرسطو في كتابه هذا أن فن المأساة يؤثر في المتلقي من خلال عاطفتين، هما: الشفقة والخوف، فتوقظهما فيه، ثم تنقيه منهما، وتطهره، وهذه عملية أطلق عليها أرسطو اسم «التطهير»، وحللها من خلال مأساة «أوديب ملكاً» لسوفوكليس، التي اختارها نموذجاً لدراسته هذه.
كتاب النفس
تثير موضوعات الكتاب إشكاليات وقضايا عدة لها صلة بالطبيعة السيكولوجيّة للظواهر، وعلاقتها بالنفس والروح من جهة، وبالجسد من جهة أخرى، وقال في ذلك «هناك مُشكلةً أُخرى مُتّصلة بأحوال النّفس، فهل تعمّ جميع الكائنات ذات النّفس، أم أنّ بعضها يخُصّ النّفس ذاتها؟ حيث إنّ الجواب عن هذا السؤال صعب لكنه ضروري، ويبدو بأنّ النّفس في مُعظم الحالات لا تفعل ولا تنفعل بغير الجسد، كالغضب، والنزوع، والشجاعة، والإحساس، وإن كان هناك فعل يخُصّ النّفس بوجهٍ خاص فهو التّفكير، ولكن إن كان هذا الفعل نوعاً من التخيّل أو لا ينفصل عنه، فإنّه لا يُمكن وجود الفكر من دون الجسد، وإذا كان هناك أحوال، أو وظائِف للنّفس تخصها وحدها، فقد يُمكن أن يكون للنّفس وجود من دون الجسد».
عن السيرة
بدأ أرسطو سنوات الكفاح الجاد في طلب العلم مبكراً، وفي السابعة عشرة ترك مقدونيا إلى أثينا ليلتحق هناك بأكاديمية أفلاطون، طالباً نجيباً، ثم أستاذاً مدرساً.
وكان أن استمر أرسطو في هذه الأكاديمية نحو عشرين عاماً، إلى أن توفي أستاذه العظيم، فقرر الرحيل ومغادرة أثينا.
ويفسر الدارسون عدم خلافة أرسطو لأفلاطون في رئاسة الأكاديمية، إلى مخالفة التلميذ لأستاذه في بعض المسائل، ما يؤكد من هذا الوجه أيضاً أن أرسطو خط أصول فكره المستقل منذ ذلك الحين، من دون أن يدع إكباره لأستاذه وتتلمذه على يديه أن يسلبا منه روحه الفكرية الحرة والمتميزة.
من أقواله:
* القانون منطق خالٍ من العاطفة.
* للحكم على شيء خاص، لا بد أن يكون الإنسان على علم خاص به.
* أفضل شيء هو أن تترك الحياة كما تترك مأدبة: لا عطشاً ولا ثملاً.
* أسوأ أشكال انعدام المساواة هو محاولة المساواة بين الأشياء غير المتساوية.
* يمكن القول إن الشخصية هي أكثر الأدوات قدرة على الإقناع.
* علامة العقل المتعلم هي قدرته على تداول الفكرة من دون أن يتقبلها.
* علمتني الفلسفة أن أفعل دون أوامر ما يفعله الآخرون خوفاً من القانون.
* الكرامة ليست امتلاك المفاخر، بل استحقاقها.
* من يستطيعون يفعلون، ومن يفهمون يُدرِّسون.
مقتطف من كتابه الأخلاق
وفي خلق المرء أيضاً أنه لا يلجأ إلى أحد، أو على الأقل لا يلجأ إليه إلا بشق النفس، وأنه على ضد ذلك يتفضل بكل قلبه، وأنه يظهر العظمة، والعزة، تلقاء أولئك الذين هم في مراكز الشرف، أو في بحبوحة السعة، وهو مملوء بالرعاية والتلطف نحو أواسط الناس، ذلك بأنه من العسر، ومن الشرف معاً، أن يطول الأولين في حين أنه من أهون ما يكون تقدمه على الآخرين، والتعالي، بل التكبر على العظام قد لابس الرجل الشريف المولد، أما على صغار الناس فإنه ضرب من سوء الذوق، ويشبه أن يكون منه سوء استعمال للقوة في حق الضعفاء.
كذلك لازم من لوازم خلق المرء أن مبين العداوات والصداقات، فإنه ليس إلا الذي يخاف هو الذي يخفى أما هو فإنه لاهتمامه بالحق أكثر من اهتمامه برأي الغير، يقول ويفعل بصراحة في وجه كل الدنيا، كأنما ذلك هو خاصة النفس العزيزة التي لا تبالي بأحد، ولأنه شغف بالحق فهو يقوله دائماً، إلا أن يكون في مقام التهكم.
إنه لا يستطيع أن يعاشر إلا صديقاً، وما معاشرة غير الصديق إلا ضرب من الرق، من أجل ذلك ترى جميع المتملقين منحدري الأخلاق.
كذلك هو لا يحب الحديث مع الناس، لأنه ليس لديه ما يقوله عن نفسه وعن غيره، وقلما يهتم بأن يمدح غيره، أو أن يعيب عليه، ولما أنه لا يسرف في المدح، كذلك لا يطيب له أن ينتقص حتى من أعدائه، إلا أن يكون ذلك في معرض شتمهم أحياناً.